top of page

ما ليس برأي

السند.jpeg

د.علي السند

الكويت

x.png

​لا أظن مرّت على البشرية حقبة زمنية أتيحت فيها للناس فرصة التعبير عن آرائهم ومواقفهم ومشاعرهم كما أتيحت لهم في هذا العصر الذي صار فيه كل مواطن عبارة عن منصة متحركة يصدح فيها، ويشارك الآخرين ما يجول في خاطره وخواطرهم، فينتقد، ويسخر، ويتفلسف، ويهاجم، ويشتم، ويحلل، ويفضح، ويتنمر، ويتذمر، ويزدري، ويمتدح..إلخ، كل ذلك في الفضاء العام جهارا نهارا، بل في كل وقت ومن أي مكان.

​ربما قبل عقود قليلة لم يكن الإنسان يمتلك رفاهية ذلك كله، فلم تكن للمواطن قنوات يعبر من خلالها عن رأيه، فالفضاء العام محتَكَرٌ في يد الحكومات، فليس إلا الإعلام الرسمي، الذي يمثل رأي الدولة، ويحرص على أن يُظهر الحكومة في أبهى صورة، فيستر كل عيوبها، وينفي عنها كل النقائص، وينسب لها كل الفضائل، فلم يكن المواطن إلا مجرد متلقٍّ، فإما أن يصدّق وتنطلي عليه تزويقات الإعلام الرسمي، وإلا فليس لتكذيبه واعتراضه أي قيمة أو تأثير.

​اختلف الوضع اليوم في ظل الإعلام التفاعلي، بعد أن اكتشف المواطن أنه صاحب رأي مؤثر، وهناك فضاءات تحتضن رأيه وتتفاعل معه، فلم يعد مجرد مستقبِل لما يضخه الإعلام الرسمي، بعد أن تراجعت أهميته وتأثيره، وأصبح المواطن مرسلا، وصانع محتوى، وصار من السهل جدا كشف التضليل الذي تمارسه أي جهة أو وسيلة إعلامية، في مقابل ذلك تطورت تقنيات التضليل وأساليب الدعاية السوداء، عبر اختراع حيل جديدة للهيمنة على العقول، لمحاولة صنع رأي عام مضاد للرأي الحر الذي يتشكل في الفضاء المفتوح بصورة عفوية.

​أمام هذا المشهد المعقد تتعرض أبرز قيم العصر - قيمة حرية الرأي- إلى اختبار عنيف نتيجة التصاق الكثير من الممارسات السلبية بها، والتي صارت تتحدث باسمها، لذلك بات من الضروري تحرير معنى حرية الرأي وتنقيته مما علق فيه بسبب الطوفان البشري الذي زحف إلى الفضاء العام بعد أن صار كل مواطن عبارة عن وسيلة إعلامية، لما يملك بين يديه من برامج التواصل الاجتماعي التي تتيح له المشاركة في أي قضية وبأي شكل من أشكال المشاركة.

​الحديث عن أهمية تحرير حرية الرأي هو من أجل حماية حرية الرأي من إضافة ما ليس منها إليها! فيسهل تشويه هذه القيمة، وبالتالي الانقضاض عليها وتحجيمها وتقييدها بسبب الممارسات الخاطئة التي تتم باسمها، لذلك عندما ندعو لاحترام حرية الرأي والدفاع عنها، فإننا بالضرورة نفرّق بين ما يُعتبرُ رأيا يُحترم وما ليس برأي، فالشتائم ليست رأيا حتى تُحترم، والتعرض لخصوصيات الآخرين ليست رأيا يُحترم، والعنصرية ليست رأيا، ونسبة الوقائع الكاذبة للآخرين، والأخبار الملفقة لا تمت للرأي الحر بصلة، وعندما نضع كل ذلك الغثاء في خانة الرأي الذي ويُحترم ويُمنح الضمانات فإننا نقدم خدمة جليلة لأعداء حرية الرأي وعشاق خلط الأوراق الذين ينتهزون كل فرصة متاحة من أجل فرض القيود على حرية الرأي، أو على أقل تقدير تشويهها وإسقاطها من أعين الناس، ولذلك كان أهم ما يحمي حرية الرأي تحريرها مما ليس برأي.

All copyrights reserved to Nebras 2024

bottom of page